(4) نظرية
الإهمال:
هناك جمع صغير من الفقه
على رأسهم ميتزجر ( Mezger ) في ألمانيا وأنتلوزي في إيطاليا
يرى ضرورة البحث عن فكرة موحدة
للجرائم غير العمدية بحيث تتضمن جميع صور الخطأ في إطار الإهمال، مع إعطاء
الإهمال
معنى الخمول العقلي، إن كل تصرف من جانب الفرد يتضمن في ذاته مخاطرة بإيقاع الضرر بالغير ما دام هذا التصرف في الجماعة.
وإذا ما تم تجاز هذه الحدود فإن الخطأ هنت يتحقق، ذلك لأن الذي يعتد به لا
طبيعة
السلوك ولكن الطريقة المحددة التي يتصرف بمقتضاها الفرد.
وهنا يثور السؤال
التالي: ما هي الحدود التي بناءً عليها تقاس تلك المخاطر المشروعة؟ وهنا
نجد أن
أصحاب هذه النظرية يلجئون بالضرورة إلى معيار الرجل العادية وإلى الفكرة
المجردة
للرجل العادي.
ومن هنا يكون الإهمال
عبارة عن عدم إعمال لتلك القدرات الفعلية التي لو وجدت لتم تنظيم السلوك
بصورة
مختفة، وعلى هذا فإن عدم التبصر نجد جذوراً له في نقصان النشاط الضابط أو
الموازن
العملية النفسية.
وما من شك أن نقد
مانزيق يكون صحيحاً هنا وخاصة بالنسبة لعدم الدراية والخبرة التي تتكون من
عدم
كفاءة مهنية لا تتطلب من الفرد أن يضعها في الاعتبار. فماذا يتكون الإهمال
في هذه
الحالة؟ هل يتكون من عدم تكملة الجاني لثقافته الخاصة أم زيادة مهارته
الذاتية؟
ويرى المعارضون لهذه
النظرية أنها تلغي أي معيار للتفرقة بين الخطأ والحدث المفاجئ الذي يظل
جذوره في
نطاق الخطأ مع التوافق.
(5) نظرية
المخاطر:
نادى بهذه النظرية
هرزوج ( Herzog )
في مؤتمر الدفاع الاجتماعي – ميلانو 1956 حيث يرى أن عدم الحيطة
والاحتراز لا تعني أن الجاني لم يتوقع نتائج فعله وهي النتائج التي يتوقعها
بسهولة
أي شخص عادي، بل على العكس يتوقع هذه النتائج ولكنه يخاطر ويغامر. فالردع
هنا لا
يجب أن يعتمد على كون الآثار والنتائج حدثت أو لم تحدث. ذلك لأن الخطأ غير
العمدي
هو في الواقع جريمة ذات الخطر ( Delitto di rischio )[27][27].
وما من شك أن هذه
النظرية قد انتقلت من القانون المدني إلى القانون الجنائي وهي تعبير عن
النظرية التقليدية
للخطأ, ولكن الذي يهم الفقه الجنائي هنا هو ذلك الفعل الشخصي الذي يعد
عاملاً
أساسياً في الحكم عرى الخطورة، وعلى ذلك يكون الخطأ ممثلاً في قيام الجاني
بالتصرف
مع المخاطرة بإحداث الضرر.
ويرى المعارضون لهذه
النظرية أنها تتضمن على شيء من الحقيقة لا الحقيقة كلها،ه وذلك أنها ترتبط
فقط
بفكرة الخطأ مع التوقع، فإذا لا يوجد هذا التوقع فإن الجاني لا يتمثل تلك
المخاطرة
ومع ذلك يكون مسئولاً على غياب هذا التمثيل.
(6) نظرية التوقع:
يكاد يجمع الفقه
المعاصر سواء في فرنسا أم في إيطاليا على أن التوقع هو المعيار الأمثل
لتحديد
طبيعة الخطأ، فالخطأ الجاني يتحقق في حالة عدم توقع النتائج الضارة للفعل
الذي
يرتكبه الجاني، أو أن يعتقد الجاني أن هذه النتائج سوف تتحقق أول لأنه لم
يتخذ
الاحتياطات الضرورية لمنع تحققها، ولا تستند هذه النتيجة للإرادة الإيجابية
للجاني
بل إلى تحقق خطأ في الإدراك أو وجود عدم حرص في التعبير عن الإرادة[28][28].
ويرجع الفقه الإيطالي
نظرية التوقع إلى أرسطو وإلى قانون أكويليا ( Lax Aquilia
)، كما يجد معضدين لها في المدرسة التقليدية من أمثال نيكوليق،
وكارنييلوتي، وفون
ليست، وميتفرجو.
ويتفق فقهاء المدرسة
الوضعية على فكرة التوقع وعلى رأسهم فري ( Ferri ) الذي يؤكد أن الخطأ يتكون من حالة
عدم انتباه وحرص, ومن الخطأ
إبعاد توقع الحدث من فكرة الخطأ وأن تعتمد فقط على علاقة السببية للإرادة.
ويؤكد الفقه المعاصر
ضرورة ربط فكرة التوقع بالإدراك وخاصة عند الرجل المتوسط والرجل العادي.
ويرون أنه يستبعد الخطأ
ويتحقق الحادث المفاجئ إذا ما توافرت عناصر ثلاث:
أ - تحقق
سلوك مشروع مع مساهمة اللا مشروعية في تحقيق الحدث.
ب- أن يكون إدراك الباعث على التصرف
لم يكن قد خضع
من قبل لعملية التوقع للحدث.
ج – ألا يكون هناك
وسيلة أخرى يمكن بها تحقق الحدث.
ويرون أن محل التوقع لا
يجب أن ينصب فقط على الحدث بل لا بد أن يرتبط بالمعيار العام لخطورة
السلوك.
وهناك من يعتد بالاتجاه
المادي في التوقع الذي يتطلب دراسة حالة بأهلية الجاني لكي يتوقع في الظروف
الخاصة
التي وقع فيها الفعل، الأمر الذي يتطلب دراسة ذكاؤه، وثقافته وخبراته.
في حين يعتد آخرون
بالاتجاه الشخصي في التوقع حيث يكون من الضروري الاعتداد بالأهلية العادية
للتوقع
بالنسبة لطبيعته الاجتماعية أو المهنية التي يلتحق بها الفرد وهنا يكون من
الواجب
أن يوضع في الاعتبار العوامل النفسية الهامة للشخصية مثل السن، والجنس،
والظروف
الصحية.
ومن الواضح أن التوقع يرتبط بالعامل
النفسي، فالخطأ
هنا عيب في الإرادة أو عيب في الإدراك أو الذكاء.
ولم تسلم هذه النظرية
أيضاً من النقد وكان على رأس المنتقدين في إيطاليا ستوباتو، وولجورج،
ومانزيق،
وفري. ويمكننا تلخيص هذا النقد فيما يلي:
أ - أن التوقع ليس عاملاً أساسياً
مكوناً للخطأ
لأنه يؤثر الذكاء ( Intelleto ) وليس على الإرادة ( Volonta )[29][29].
ب- ليس على الفرد
واجب توقع شيء معين عن فكرة، وبمعنى آخر لا يكون الإنسان في درجة تسمح له
بتوقع
شيء بعيد عن فكره.[30][30]
ج – يحكم على
الحدث الضار مقدماً ( a
posteriori ) عند استخدام معيار التوقع، فالقاضي ينكر ويؤكد التوقع
لحدث لم
يتحقق بعد.
د – من غير
المعقول أن نحاسب شخصاً لم يتوقع ما توقعه شخص
آخر كان أكثر منه ذكاء أو حرصاً. إن العدالة الجنائية لا تضع في الاعتبار
الشخص بتوقعاته
ولكن بأفعاله وتركه.[31][31]
وإذا كانت هي أهم
النظريات التي تعمل على تحديد طبيعة الخطأ فإن الفقه الحديث يرفض تلك
النظريات
التقليدية بما في ذلك نظرية المخاطر ( Risk ) لأنها تعمل على تشويه فكرة الخطأ
غير العمدي علاوة على أنها
فرضت على النظام الجنائي بسبب الميول الفقهية المادية في التجريم. ويطالب
الفقه
الحديث بنظام متحد للجريمة على أساس الخطر إلى جانب الجرائم التقليدية
للضرر حتى
يمكن العمل بنظام منعي فعال إلى جوار النظام الردعي.
(3) موقف
الفقه الأنجلوسكسوني وتعريف فكرة الخطأ:
لقد اتخذت القوانين
الأنجلوسكسونية بعض العبارات الغامضة في محاولة البحث عن طبيعة الركن
المعنوي،
فأحياناً تستخدم عبارة ( أفعال غير مشروعة ) ( unlawful act ) وأحياناً تقول أفعال مشروعة أرتكبت
بطريقة غير مشروعة ( lawful
acts
done in unlawful way
) وهذه الصياغات تدل على فشل واضح ولذلك لعد إعطاء كلمة الفعل المعنى
الحقيق لها.
ويبدو ذلك واضحاً في جريمة القتل غير العمدي حيث يتطلب الفقه أن تتوفر لدى
الجاني
سلوكاً يعمل على تعريض شخص آخر بصورة مؤكدة ( certainty ) أو المخاطرة بتعريضه ( risk ) لضرر جسماني غير خطير فعنصر اليقين
وعنصر المخاطرة أساسان جوهران
لتحديد الخطأ هنا.
ويتطلب البعض في الفقه
الأنجلو سكسوني ألا يكون الجاني واعياً لخطورة سلوكه ولو أنه مع ذلك يغامر
ويخاطر
باقتراف السلوك.
ويؤكد البعض الآخر أن
الجاني يعتبر قد ارتكب جريمة غير عمدية:
1- عندما يتوقع ( forsaw )
الحدث كشيء أقل من الممكن.
2- عندما يفشل في التوقع على الرغم أن
الرجل
العادي يتوقع هذا الحدث.
3- أو عندما يفشل الجاني في أن يتخذ
الاحتياطات
المعقولة، وكذلك معيارالمخاطر.
وإذا كان معيار التوقع
هو الأقل نصيباً من حيث التطبيق وخاصة عند ارتباطه بالخطور ( gravity ) وأن القضاء يعتمد على عاملين في
تحديد المخاطر هما : خطورة
الضرر المتوقع وجديته، و احتمال تحقق الضرر.
(1)
الجرائم العمدية في القانون المصري
والسوداني:
باستعراض التشريعات
المقارنة نجد أن بعضها قد وضع قاعدة في القسم العام لتعريف الجريمة غير
العمدية،
في حين أن بعضها الآخر قد عدد صوراً فقط لهذه الجرائم في القسم الخاص[32][32]. وقد اتبع القانون المصري النمط
الثاني وسار قانون العقوبات
السوداني كذلك على نفس المنهج حيث تعرض الأول في المادة 238/1 في الباب
الخاص
بالقتل والجرح والضرب على أنه من تسبب خطأً في حدث شخص آخر بأن كان ناشئاًَ
عن
إهماله أو رعونته أو عدم احترازه أو عدم مراعاته القوانين واللوائح
والأنظمة يعاقب
...
ونص قانون العقوبات
السوداني في المادة 256 على أنه ( كل من يسبب موت إنسان بفعل من أفعال
الطيش أو
الإهمال لا يصل إلى درجة القتل يعاقب عليها ... ).
ولقد ذكر القانون
المصري الإهمال في المواد 139 و 147 و 151، على الإهمال وعدم الاحتراز في
المادة
163. وقد نظم المشرع المصري تعديل تشريعي بمقتضى القانون رقم 120 لسنة 1972
ارتكاب
موظف عمومي جريمة غير عمدية في المادة 116/م على
أنه ( كل موظف تسبب بخطئة الجسيم في إلحاق ضرر جسيم في أموال أو
مصالح
الجهة التي يعمل بها أو يتصل بها بحكم وظيفته أو بأموال الأفراد أو مصالحهم
المعهود بها إليه بأن كان ذلك ناشئاً عن إهمال جسم في أداء وظيفته أو عن
إساءة
استعمال السلطة أو عن إخلال جسيم بواجبات الوظيفة يعاقب ... )
ويتفق الفقه المصري على
أن هذه الصورة قد جاءت على سبيل الحصر، والدليل على ذلك اضطرار المشرع إلى
التدخل
بنص تعديلي في جريمة الخطأ غير العمدي الجسيم من الموظف (م116/م). ومن هنا
يتخذ
الفقه المصري من المواد السابقة لتحديد طبيعة الخطأ غير العمدي.
ومن الملاحظ أن الفقه
المصري على اختلاف توجهاته يستخدم معيار التوقع ومعيار الرجل العادي لتحديد
طبيعة
المسئولية عن الخطأ.
إلا أن المشرع المصري
في جريمة الموظف غير العمدية قد تطلب درجة معينة عن الخطأ ينص على ( تسبب
بخطئة
الجسيم ... ) وقد تعرضت محكمة النقض المصرية في حكم لها عام 1966 لتفسير
الإهمال
الجسيم بقولها ( مما يعيب حكم محكم الجنايات أنه قد سوي بين الإهمال الجسيم
والطيش
فخلط بذلك بين جريمتي الإضرار العمدي والإضرار بإهمال، وأقام قضاؤه على
أساس أن
الإهمال الذي يوجب المساءلة الجنائية هو الذي يثبت فيه أن الجاني قد توقع
حصول ضرر
من تصرفه الخاطئ، ولكنه لم يكترث به ولم يعبأ ... والإهمال الجسيم صورة من
صور
الخطأ الفاحش ينبئ عن انحراف مرتكبه عن السلوك المألوف والمعقول للموظف
العادي في
مثل ظروفه- قوامه – تصرف إرادي خاطئ يؤدي إلى نتيجة ضارة توقعها الفاعل أو
كان
عليه أن يتوقعها ولكنه لمن يقص إحداثها ولم يقبل وقوعها )[33][33].
وتعرض القانون السوداني
الإهمال في المادة 229 ( الإهمال المسبب خطراً على الناس والأموال )
والمادة 220 (
الإهمال بشأن الحيوان ) والمادة 256 ( تسبيب الموت بإهمال ) والمادة 265 (
تسبيل
الاجهاض بدون قصد ) والمادة 284 ( تسبيل الأذى بفعل يعرض حياة الغير
وسلامته للخطر
).
ويستخدم المشرع
السوداني في هذه المواد صوراً للخطأ هي: الطيش والإهمال ( Negligence ) الخطأ غير عمدي ( non intentionally ).
وإذا كان اصطلاح الخطأ
غير عمدي قد رفضه الفقه المقارن لغموضه، فإن صور الخطأ في القانون السودان
تنحصر
في صورتين – الإهمال والطيش. ويعمل شراح القانون السوداني على تحليل هذه
الصور
وربطها بنظرية التوقع ومعيار الرجل العادي، فالطيش هو اقتراف فعل مع العلم
بأن هذا
اعتداء قد يؤدي إلى إحداث الضرر ولكنه مع التوقع بأنه يمكن تجب وقوع هذا
الحدث.[34][34]
والإهمال هو الفشل في
القيام بالرعاية والحرص على الضروريين لتجنب الضرر على النحو الذي يسلكه
الرجل
العادي في نفس الظروف.
ويكاد يعكون للمصطلحين
( Recklessness,
Rashness ) نفس المعنى هو الطيش أو
الرعونة عند تأكيدهم
بأن لهما معنيان أحدهما شخصي وهو التحمل الواعي لمخاطر معينة غير مشروعة مع
محاولة
تلافيها ( سوء تقدير ) والآخر موضوعي وهو السلوك المتضمن على مخاطر غير
مشروعة
سواء كان الشخص يعملها أو لا.[35][35]
ثانياً : عناصر
المسئولية في الجرائم غير العمدية:
رأينا أن الفقه المقارن
قد رفض نظرية الإرادة غير المشروعة أو فكرة السلوك المخالف لواجب قانوني،
فكرة
الإرادة الواعية التي تنتهك استخدام واجب ولم يجد
الفقه الألماني والفقه الإيطالي بداً من قبول نظرية التوقع للخطأ.
وانتقد
الفقه الحالي في القانون الروماني والشريعة الإسلامية, أما الفقه الحديث
فقد تردد
بين صيغة السلوك الضرر[36][36] وتارة بالخطر، ويهمنا في هذا المجال
توضيح كيفية تنظيم الفقه
المقارن لممارسة السلوك الخطر لتحديد معيار المسئولية.
والجريمة غير العمدية
يستفاد من وصفها أن هناك سمة خاصة للإرادة يجب إبرازها ومن هنا يكون من
الضروري
التركيز على الركن المعنوي في الجريمة غير العمدية.
وأخيراً قد يكوم من
المفيد لتكملة الصورة تحديد مدى قبول النظرية الغائية في هذا المجال.
يتطلب الفقه المقارن
واجب الاحتياط العام لهذا التنظيم للسلوك الخطر فالقانون يتطلب من كل من
يمارس
سلوكاً خطراً بحسب طبيعته أن يبذل العناية اللازمة لتجنب هدف نتيجة غير
مشروعة[37][37]. ويتجه الفقه الغالب إلى أن المعيار
المميز لواجب الاحتياط يعتمد
على أساس أن القانون يفرض على كل فرد أن يسلك في تصرفاته سلوك الرجل
العادي.
وتقدير سلوك الرجل العادي يكون بحسب الأصل تقديراً موضوعياً حيث يتحدد بناء
على ما
استقرت عليه الخبرات الاجتماعية العامة. ولا يقبل الفقه المعيار الشخصي في
هذا
المجال بمعنى الرجوع إلى الشخص نفسه والنظر فيما إذا كان تصرفه الذي أدى
إلى وقوع
النتيجة يتفق مع تصرفاته السابقة أم أنه أخل بهذا التصرف بما اعتاد عليه من
الحيطة
في تصرفات سابقة، ولا يقبل هذا المعيار الشخصي لأنه سيجعل الشخص المهمل
عادة لا
يعاقب بينما يكون الشخص الشديد الحذر عرضة للعقاب[38][38]. ولم يسلم المعيار الموضوعي أيضاً من
أصحاب الدفاع الاجتماعي حيث
يعتبرون أن معيار الرجل العادي معيار مجرد غير محدد ويضربون مثلاً بالحصان
فهناك
حصان لجر العربات وحصان للسباق وحصان
للزينة ولكن لا يوجد حصان عادي.[39][39]
ومن الملاحظ أن
التشريعات التي لم تنص على قاعدة لتنظيم الخطأ غير العمدي عملت على الإتيان
بأوصاف
للسلوك وصور له. ولقد رأينا أن القانون المصري في الجرائم الماسة بجسم
الإنسان قد
عدد هذه الأوصاف: الإهمال والرعونة وعدم مراعاة القوانين والقرارات
واللوائح والأنظمة.
والمشرع المصري في ذلك يتتبع تلك الأوصاف التي وردت في التشريعات اللاتينية
وخاصة
القانون الإيطالي والقانون الفرنسي.
وبتحليل القضايا في
القانون العام الإنجليزي نجد أن هناك نقصاً في النظرية العامة للخطأ غير
العمدي،
وهناك صوراً يبرزها القضاء وعددها الفقهاء: الإهمال ( Negligence ) والرعونة ( Recklessness ) النحو الذي سبق أن رأيناه في الفصل
وإذا كان الإهمال في القانون
الإنجليزي في معناه المدني المؤدي إلى التعويض هو اقتراف فعل بمنع الرجل
العادي أو
الرجل الحريص على إتيانه أو امتناع عن فعله مع أن القانون يقرر التزام على
عاتقه،
فإن الإهمال في معناه الجنائي يتضمن سلوكاً أشد وطأة حيث أن الجاني يذهب
إلى ما
وراء السلوك المؤدي إلى التعويض بل يبدي عدم اهتمام بحياة وسلامة الآخرين.
وقد
يكون هذا الإهمال لا إرادياً هو الحال في الأب الذي يمتنع عن استدعاء
الطبيب
لإنقاذ ابنه الذي يحتضر لأنه من جماعة لا تعتقد في الطب، وقد يكون إرادياً
كما هو
الحال فيمن يقتل آخر عقب نشوب معركة بالأيدي أو من يقتل آخر عق استفزازه
بواسطة
نوع من استخدام القوة[40][40].
ويعتبر القضاء
الإنجليزي معيار الرعاية الواجبة واتخاذ واجب الاحتياط[41][41]. ويتخذ معيار الرجل العادي ( Reasonable
man ) مقياس لليقين والمخاطرة
وإذا لم يكن هناك تعريف تشريعي لهذا المعيار فإن بعض المحاكم قد حاولت
تعريفه على
أساس أنه الرجل المتوسط ( Average )
أو الشخص الذي لا يدفع بالجنون ( Insanaty ).
(2) العنصر المعنوي في
الجرائم غير العمدية:
يتكلم علماء النفس عن
الإهمال من وجه النظر السيكلوجية على أساس أنه سمة سلبية فهو نقيض
الاهتمام.
والإهمال والاهتمام
مفاهيم سلوكية بمعنى أنها مفاهيم تطلق أو تخلع على سلوك الأفراد في ضوء
معايير
موضوعية فلا يوجد ( إهمال ) داخل الناس كذلك لا يوجد فرد بداخله ( اهتمام )
إنها
مجرد تسمية لسلوك الفرد. ولذلك يعرفون الإهمال تعريفاً إجرائياً على أنه (
مفهوم
يطلق على بعض الأساليب السلوكية المعبرة والمميزة في مواقف اجتماعية معينة
يتوقع
تكرار حدوثها في مواقف مماثلة أو مشابهة مما يسهل عملية التنبؤ بالسلوك إذا
ما
عرفت أبعاد الموقف وخلفيته ).[42][42]
ويتكلم علماء النفس عن
الأسس العامة لسيكلوجية الإهمال ويحللون الانتباه ( Attention ) والإدراك ( Perception ) ويتكون الإدراك من عوامل ذاتية هي
الانتباه الذي يعد الخطوة
الأولى لإدراك أي منبه خارجي، والتهيؤ العقلي ( Mental
setting ) حيث يبذل الفرد
جهداً خاصاً لاستقبال المواقف فيتأهب له ويستعد لمواجهته، والخبرة (Experience
) والإلفة ( Intimacy ) حيث يعتبر المألوف أسهل إدراكاً من الموقف حيث يدرك
الإنسان
الموضوع خارجي على أنه كل متكامل وليس على أساسه جزئيات منفصلة وحيث يدرك
الإنسان
أي موضوع خارجي على أنه شيء منفصل بارز واضح على أرضية أو خلفية باهتة.
ومن هنا تكون عملية
الإدراك ( Perception
) عملية كلية تتداخل فيها عوامل ذاتية خاصة بالفرد المدرك وعوامل موضوعية
خاصة
بموضوع الإدراك. ويعتبرون أن محددات سيكلوجية الإهمال وخاصة في مجال العمل
هي:
1- ظروف العمل.
2- الظروف الشخصية والاجتماعية
للعامل.
3- الأرضية الفكرية للعامل وإعداده.
وهناك فريق من الفقه
وعلى رأسهم فري يرى أن السلوك والجرائم غير العمدية ( الإهمال ) متضمن على
إرادة
شعبية ويبحث آخرون عن دور الإرادة في ذلك الفعل لا يمكن إدراكه إلا في
علاقة مع
الإرادة التي يرمي إليها هذا الفريق هي ذلك النشاط الفيزيقي
الذي يتفاعل مع منبه خارجي، ويرون أن
الحركات الغريزية الانعكاسية تتحقق بصور لا إرادية. وعادة ما يمر الفعل
الإرادي
بمراحل أربعة أساسية:
1- مرحلة التمثيل للفعل Representation .
2- مرحلة العزم على الفعل Delineration .
3- مرحلة اتخاذ القرار Decision .
4- مرحلة التنفيذ Execution .
ويؤكد الفقه المقارن أن
مراحله الأولى تكون ذات أهمية كبيرة في جرائم الخطأ غير العمدي، ولكن لا
يجب أن
تفهم هذه الأهمية في العلاقة مع هدف الإرادة، بل في قدرة هذه الإرادة على
أن تلعب
كعامل سببية مع الحدث الخاص.
ولا يحبذ الفقه الحديث
تحليل أصحاب النظرية الغائبة ( Teoria Finalistica
) في ربط الهدف بالخطأ حيث يرون أنه لا يمكن البحث عن العامل الأساسي في
الإهمال
في علاقة السببية والنتيجة المادية، بل في انتهاك الالتزام بالحرص وهو ما
يبدو
بصورة واضحة في جرائم المرور.
وإذا كان الفقه يتطلب
في جرائم الخطأ سلوك خاص فإنه يطلب أن الجاني يرغب في تلك الحركة العقلية (
Meto musculare
) ويرغب في ذلك الخمول ( ineriziing ) الذي يعتري تفكيره ولا يرغب في تلك
النتائج المترتبة على
السلوك. ومن هنا نجد أن عدم الانتباه واللا مبالاة والإدراك غير المحدد
والإرادة غير المستقرة بل والجهل بظاهرة
معينة أو الجهل بالتزام يجب على الفرد القيام به. كذلك الغلط في التقدير كل
ذلك
عناصر نفسية في الجرائم غير العمدية.
وهناك من يتطلب من
العنصر النفسي في الجرائم غير العمدية أن يكون الجاني على إدراك ووعي بعدم
مشروعية
الفعل ( Antigiuidicita ) ولكن من الواضح أن هناك علاقة
تبادلية بين عدم التوقع والالتزام
باتخاذ الحيطة والحذر خاصة وأن معرفة اللا مشروعية لا تعد عنصراً في فكرة
القصد ( Dool ) .
نخلص من عرضنا السابق
إلى ما يلي:
أولاً: أن معيار تحديد
فكرة الخطأ لا بد أن تعتمد على فكرتين أساسيتين الضرر والخطر.
ثانياً: أن فكرة التوقع
بمفردها ليست بكافية لتحديد طبيعة الخطأ بل لا بد من أن يوضع في الاعتبار
فكرة
الخطورة للفعل.
ثالثا: أنه من الضروري وضع صياغة عامة
لتعريفه للخطأ
دون الاعتداد بالصورة المختلفة التي ثبت أنها صفات للسلوك الخاطئ.
رابعاً: لتحديد فكرة
التوقع لا بد من الالتجاء إلى معرف علم النفس حتى يمكن ضبط العملية الزمنية
خاصة
وأنها في تحليل آخر ليست عيباً في الإرادة بقدر ما هي مفاهيم نفسية
واجتماعية وتوقعية.
[1][1] Roger Merle &
Andre Vitu = Traite
de droit criminal, Cujas
1963, p.
449.
[2][2] Ruperto
Munz Barbero =
Juridical
structure of criminal negligence in modern doctrine. Inter. De dr. pen,
vol.
1,2,1976, p.9.
[3][3] friedrick
P.& rossger W= Further expression of
socialist
way of gife and problems of offenses of
negligence in
road traffic, Abstract of criminology and penology, 17,N.2,1977,p. 669.
[4][4]
جمهورية السودان
الديمقرطية = التقرير الجنائي السنوي لعام 1975 – وزارة الداخلية صفحة 56 –
59.
[5][5]
ويلاحظ أن الإحصائيات
السابقة تتعلق بالحوادث التي تقع تحت قانون الحركة لعام 1975 وهي لا تتضمن
جرائم
القتل والإيذاء غير العمدية التقليدية طبقاً لنصوص قانون العقوبات السوداني
والتي
لا تساعد البيانات الواردة في هذا الشأن على التمييز بين التي ارتكبت بصورة
عمدية
وتلك التي ارتكبت بصورة غير عمدية ( أنظر
المرجع السابق صفحة 19 ).
[6][6] R M. Barbero = Judical structure – op.cit.,
p.12.
[7][7] Merle & Vitu = Traite de dorit
criminal - – op.cit., p.
449..
[8][8] Jerome
Hall = General Principples of Criminal
Law,, N.Y.1947,p.105.
[9][9] Messicano
= Instituzione di
diritto civile,
Cedam 1952,p.127.
[10][10] Enerico
Altevilla = La colpa,
vol.i.1957,p.4.
[11][11] Altavilla
E = la colpa – op. cit, p. 9.
[12][12]
محمد أبو زهرة = الجريمة
والعقاب في الفقه الإسلامية – الجزء الأول صفحة 143.
[13][13]
أحمد فتحي بهنسي =
المسئولية الجنائية في الفقه الإسلامي – 1961 صفحة 128.
[14][14]
عبد القادر عودة = التشريع
الجنائي في الإسلام – القسم العام – الجزء الأول صفحة 407.
[15][15]
الزيلعي = تبيين الحقائق –
شرك كنز الدقائق – الجزء السادس – مطبعة بولاق
سنة 1215هـ صفحة 97.
[16][16]
الزليعي = المرجع السابق
صفحة 101.
[17][17]
د. عبد العزيز عامر =
التغرير في الشريعة الإسلامية – رسالة دكتوراه 1955 – صفحة 84.
[18][18]
عبد القادر عودة = المرجع
السابق صفحة 435.
[19][19]
السبب في عدم تضمين الخطأ
اليسير في المسئولية الجنائية أن العقوبة الجنائية تهدف إلى تقويم اعوجاج
الجاني
الذي لا محل له عندما يكون الخطأ يسيراً. ولم تعد لهذا التقييم أهمية نظراً
لأن
المشروع الحديث لم يعد يهتم بالخطأ اليسير لأنه لا مسئولية على الأفعال غير
العادية أن الشاذة.
[20][20]
د. محمود نجيب حسني = شرح
قانون العقوبات الإسباني – القسم العام – 1968 صفحة 428.
[21][21] Mer…
[22][22]
أنظر
[23][23] Del Giudice =
II delitto colposo,
1918. Manzini v = trattato di delitto penole,
vol. I,P.694. Stoppato F.=Manual di diritto penale, Parte General,1955,p.262.
[24][24] Altavilla
E.=La colpa – 0p.cit., vol. I, p. 374.
[25][25] Anolisei
F.=manuale – op. cit., p. 263.
[26][26] Grammatica
F.=Princip di diritto penale soggettivo, 1943, p. 386.
[27][27]
أنظرHerzog
= La prevention des infractions involontairs
contre La vie et I integrite
de
la personne huaine.
Congresso della
prevenzione, Giuffre,
Milano, 1956.
[28][28] Vitu
& Merle = Traite – op. cit., p. 450.
[29][29] ُ Riccio
= II Reato
colposo 1952, p.89.
[30][30] Del Giuduce= = II Reato colposo, p. 45.
[31][31] Manzini V. =
Trattato, vol. I p. 692.
[32][32]
من الأمثلة على النط الأول
قانون العقوبات الإيطالي الذي نص في م 43/3 على أنه :
وقد اتبع هذا
المنهج من التشريعات العربية القانون العراقي في م
25
والمادة 186 من القانون السوري والمادتين 190، 191 من قانون العقوبات
اللبناني،
والمشروع الموحد في المادتين 5/1 والمادة 44 من القانون الكويتي
والمادة 217 من القانون التونسي.
[33][33]
مجموعة الأحكام الصادرة من
الهيئة العامة للمواد
الجزئية السنة السابعة عشر العدد الثاني ص 491 وما بعدها.
[34][34]
د. محمد إبراهيم زيد =
قانون العقوبات المقارن – القسم الخاص 1974 صفحة 144.
[35][35]
د. محمد محي الدين عوض =
قانون العقوبات السوداني معلقاً عليه – 1970 صفحة 394 .
[36][36]
أنظر رسالة
[37][37]
نصت بعض التشريعات بصورة
شريحة على هذا الواجب كالتشريع الهولندي في المادة 28 ( يعتبر مرتكباً
لجريمة غير
عمدية كل من يخفق في مراعاة الحرص الواجب الذي يكون في استطاعته حسب الظروف
المحيطة به فلا يتوقع النتيجة المعاقب عليها التي ترتب لفعله أو يعتقد أن
النتيجة
لن تتحقق ) .
[38][38]
د. سمير الجنزوري= مبادئ
قانون العقوبات القسم الأول 1971 صفحة 163.
[39][39]
مثال ذلك Prins
وجراماتيكا في محاولتهما للقضاء على فكرة الإذناب وإحلال مبدأ
المعاداة
للمجتمع.
[40][40]
د. محمد إبراهيم زيد =
قانون العقوبات المقارن – المرجع السابق صفحة 129.
[41][41] Darbon V Bath
Tramways ( 1946 >
[42][42]
د. عزيز حنا = سيكلوجية
الإهمال: دراسة قدمت للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية القاهرة.